في ليلة المباراة، جفاني النوم وأمضيت الليل جله أفكر فيما مر بي من امتحانات خلال سنواتي الدراسية وخاصة الإشهادية منها، وتذكرت تلك اللازمة التي كان يرددها على مسامعنا معلمونا وأساتذتنا في المرحلة الإبتدائية والإعدادية يوم الاختبار وهم يرمقوننا بعيونهم التي تتغير نظراتها في هذه الأوقات عن غيرها: “عند الامتحان يعز المرء أو يهان”!!!.
كم كنت أمقت هذه العبارة الحاطة من الكرامة الإنسانية لمجرد عدم التوفق في الإجابة عن اختبار. في الصباح غادرت فراشي باكرا وهيأت نفسي وانطلقت من فندق الأندلس الذي كنت أقيم فيه في اتجاه باب العين بعد أن مررت بدروب ضيقة مبلطة بأحجار ملساء وعلى جنباتها دكاكين بأبواب خشبية زرقاء، علق عليها مزلاج حديدي كبير.
ركبت بعدها سيارة أجرة وطلبت من سائقها أن يقلني إلى أقرب مقهى لثانوية ظهار بن عياد حيث مركز الامتحان، وبعد هنيهة وجدت نفسي بمقهى الأخوين قبالة جبال عالية تظللها غمامة بيضاء.

ما إن أخذت مكانا قبالة واجهة زجاجية عريضة، أحضر النادل قنينة ماء وكأسا وبادرني بالقول:
شي فطور أأُوساد؟
يبدو أن من عادة الناس هنا أن ينادوا الزوار بالأستاذ، رنت كلمة الأوساد في أذني وطربت لها نفسي وقلت صدق الله وعدك.
طلبت جبنا وزيتا وزيتونا وكأس شاي منعنع وتناولت وجبتي على عجل وتوجهت إلى مركز الامتحان قبل الموعد بنصف ساعة تقريبا. وجدت ببابه حشدا هائلا من الشباب والشابات. تبدو على أغلبهم علامات الترقب والانتظار وكدت لا أرى أحدا يحمل كتابا فالكل غارق في شاشات هاتفه. وأمام باب الثانوية الذي ظل مقفلا حركة كثيفة من السيارات.
كان يقف هناك شرطي وعون سلطة وحارس المؤسسة الذي يسمح بدخول الأساتذة المكلفين بالحراسة. وقبل ربع ساعة على موعد الانطلاق سمح للمترشحين بدخول فضاء المؤسسة التي كانت تتكون من طوابق ثلاثة. بحثت عن اسمي ضمن اللائحة وصعدت القاعة 16. فرحت برقمها وربطت ذلك بالمعدل وقلت هذا فال خير. بالقاعة ذات اللون الأزرق، الذي يكاد لا يخلو ركن بالمدينة منه، كانت تجلس على المكتب أستاذة بدينة بعض الشيئ أسدلت شعرها على كتفيها ومن خلف نظارتها الطبية كانت نظراتها ثاقبة.
توجهت إلى المقعد الذي يحمل رقمي وجلست أحاول أن أطرد التوتر والضغط عني. وفجأة دخل علينا أستاذ ثان يرتدي معطفا أسود اللون وسروال جينز أزرق وحذاء جلديا شتويا ويلف على عنقه شالا صوفيا باليا، حيى الأستاذة الجالسة بالمكتب وطلب منا وهو يحدثنا بلغة عربية فصيحة لا تخلو من لكنة شمالية أن نضع حقائبنا أمام السبورة.
وشرع يراقب تطابق أسمائنا بالبطاقة الوطنية مع استدعاءات الامتحان. وكان يمر بين الصفوف كأنما يمشي بالعرض البطيء، تسبقه بطنه إلى الأمام قليلا وهو يباعد بين ذراعيه. لما فرغ من التأكد من أن المترشحين الماثلين أمامه هم حقيقيون لم يتسلل بينهم غريب منتحل صفة مترشح، جذب كرسيا وجلس عليه وهو يمرر يديه على شعره الذي لا يبدو اتجاه يمينه من يساره وأقبل على أوراق يعدها عدا. لما دقت ساعة الحسم وزع علينا الأستاذ أوراق المواد الثلاثة دفعة واحدة فبدت أمام كل مترشح كوشة من الأوراق وغاص كل مترشح في بحره وحيدا يصارع أمواجه.
بعد مرور نصف ساعة تقريبا دخل القاعة موظف يرتدي معطفا رماديا طويلا يحمل بيده هاتفا من الحجم الكبير ومن خلفه شخص آخر بلباس رياضي، يحمل في يده كاميرا نيكون.
دنا الموظف من مترشحة بعد أن عدل كمامته وانحنى عليها ناظرا في أوراقها المبعثرة وهمس بصوت خفيض “بون كوراج”. نظرت إليه في ارتياح وعادت إلى محنتها، بينما كان حامل الكاميرا يأخذ صورا من زوايا مختلفة دون أن يحدث صوتا. مرت ثلاث ساعات كأنها نصف ساعة.
وحينما سلمت ورقتي ووقعت على ورقة الحضور وقبل أن أغادر القاعة، أخذ الأستاذ صاحب البذلة السوداء ينظر في ورقة اللغة العربية، ثم قال لي وهو يكشف عن ابتسامة رضى:
– بما أنك أجبت عن هذا السؤال فأنا أتوقع نجاحك. ابتسمت في وجهه واسترسل قائلا أنا ايضا أدرس لغة الضاد. قالها بزهو وافتخار ووضع يده بجيبه وأخرج كمشة من حبات الزبيب وقال لي حينما تصير أستاذا لا تنس أن تأخذ معك هذه إلى القسم إنها تقوم بنفس دور الجذاذة، لا تنجح الحصة الدراسية من دونها، وواصل مستدركا ومبتسما :
– لكن إياك أن تنشغل بأكل الزبيب وتهمل دروس اللغة والتراكيب! ضحكت مجاملة لمزاحه الثقيل وحملت حقيبتي وغادرت القاعة رقم 16 .